لقد لَحى الله دمشق بمحن توالت على أُذني السامعين ، ودُكت
مآذنها على أيدي التتار والمغوليين ، شُردت النساء ويتم الأطفال وبكت الأرامل
وناحت العجائز لكن دمشق معدنها ذهبي مهما طالت المحن وزفرت بأنين الثكلى واليتامى
.
دمشق عاصمة الخلافة الأموية ومنبع العلم والعلماء ، بل
لولا دمشق لما عرفنا القدس ولما عرفنا بغداد ولما عرفنا طبرية ولا عسقلان !
على ثراها سارت خطى عبد الملك بن مروان ودكت عند حصونها
وقلاعها أعناق جبابرة الروم !
القلعة الدمشقية ومئذنة مسجد بني أمية خير شاهد على ما
أقول !
بها دفن خالد بن الوليد سيف الله وسيف الرسول ، بها دفن
ابن تيمية عالم العلماء ، بها وفيها تربى صلاح الدين الأيوبي فاتح القدس ومُحي
الملة !
إيهٍ دمشق ماذا سأكتب وماذا سأقول ؟
دمشق قصة الحضارة ، بكل ما تحمله الكلمة من بديع
الكلمات ومعاني الحروف!
حدائق ذات بهجة تتخلل أروقتها ، غنى لجمالها الحمام ورقصت
على إيقاعها قصائد نزار قباني ، وسُطرت على رقها كلمات محمد علي الطنطاوي !
دمشق هي القصيدة وهي القاموس ، لا تحتاج إلى القوافي ولا
تحتاج حتى إلى الحروف!
نعم حدثني عن دمشق !
دمشق ليست كطرابلس ولا كتونس ولا كالقاهرة لأن قصة حضارتها
بنيت على جماجم الرجال وصهيل الخيل !
نعم هذا ياقوت الحموي يقول في معجم بلدانه " ما وصفت
الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله "
لقد شهدت دمشق أياما سالت فيها الدماء وجُزت فيها الرؤوس ،
ففي نهاية العهد الأموي شهدت مجازر جماعية وحرق حتى للأموات بعد نبشهم من القبور ،
بل إن زوجة عبد الملك بن مروان جُرت وهي حافية عارية إلى البرية وقتلت هناك على يد
غلمان بني العباس كما يقول البلاذيري في فتوح بلدانه !
دمشق أسطورة التأريخ وكتابها الذي تسجل فيه الأحداث ،
فقلما يكتب كاتب في التاريخ إلا ذكر شيئا ولو نزرا قليلا من أخبارها .
أما سجل الثورات فليس جديد على ساكنتها ، فقد ثار أتباع
الأمويين على ولاة بني العباس وأمرائهم ، وأول ثورة عرفتها دمشق هي ثورة عثمان
الأزدي وثورة هاشم بن يزيد السفياني وثورة أبي العميطر وثورة مسلمة بن يعقوب
المرواني ... ألخ .
إن هذه الثورات المتوالية كانت نتيجة وثمرة للثورة الأولى
التي قامت على بني أمية ومن زرع الحنظل عليه أن ينتظر حتى يتجرع كأسا منه !
نعم دمشق ظلت صامدة رغم الجروح التي خدشت وجهها الجميل
وبقيت بعد كل هذا مسيطرة على ماء شبابها مبتسمة في وجه التاريخ قائلة هل هناك ثورة
أخرى ؟
نعم هناك ثورات وثورات !
جاء حافظ الأسد في أزيز ثورة الحركة التصحيحية منقلبا على
رفيق دربه صلاح جديد بعد هزيمة 1967م التي قرر صلاح جديد مواصلة الكفاح مهما كلف
الثمن ضد الكيان الصهيوني !
نعم مهما كلف الثمن لكن كبار الجيش اختاروا الاستسلام ووضع
السلاح حتى يكون الجيش في قوة أقوى من هذه .
نعم كانت حجج حافظ الأسد كحجج غيره من الانقلابين ، تصيح
مسار الديمقراطية وإعادة تأهيل الجيش من جديد واستولى على الحكم سنة 1970م .
هكذا زعم حافظ الأسد لكن التاريخ مازال في صراع أبدي
مع عاصمة الخلافة الأموية دمشق .
أخيرا جاءت رياح الربيع العربي لتعيد التاريخ من جديد
وبدأت دمشق تسجل أحلامها الوردية بمداد أحمر قاني اللون ، ذبح للأطفال كالخرفان ،
ودماء تجري مجرى الأنهار والوديان إلا أن هذه الثورة تختلف عن سابقاتها وذلك أن :
غالب الثورات الدمشقية كانت تأتي من الداخل بعد حملة
تثقيفية يقوم بها أبناء حمص والجولان وهذه المرة يقف ورائها النيتو وحلفاء الشرق
الأوسط الجديد !
أنا لا أبرر جرائم بشار فهو سفاح دمشق وابن سفاح حمص ،
لكنني كذلك لا أبرر الهمجية المقابلة التي تفتخر بأن الذبح بالسكاكين هو الخلاص
الوحيد !
مهما كان الدافع ليقتنع كل من قام بثورة أو ساعدها أن بيته
الزجاجي سيتكسر عليه يوما بأيدي من بنوه له ورقصوا بين يديه !
صحيح أن بشار الأسد هو آخر الممانعين من العرب ، وآخر من
يقف في القمم العربية ويقول " لقد كشفت الحرب عن أنصاف الرجال "
ولعل هذه الكلمة هي السبب الحقيقي وراء الداعمين لإسقاطه
من عرشه !
دمشق العذراء خطبها خطباء ، تزوجت البعض منهم وبقيت صامتة
عن البعض ، تزوجها عبد الملك بن مروان وحاول المتوكل العباسي نقل عاصمته من سامراء
ليدخل بها لكن الأتراك اثنوه عن ذلك ، فمن يا تُرى سيخطب دمشق ويتربع على عرشها من
جديد ؟؟؟
المهدي بن أحمد طالب / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي
0 التعليقات:
إرسال تعليق